
في السنوية الأولى لمعركة “أولي البأس” يمكن ان نسجل النقاط التالية:
لا تزال المعركة مستمرة ولم تتوقف مذ بدأت في 8 تشرين وتنتقل من فصل إلى فصل ولمّا تنتهي فصولها بعد، وهي بالفعل الجولة الأخطر والأعقد في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني منذ تأسيسه. وانه ونتيجة حدّتها وشدّتها وتراكبها وتداخل دوائرها وأبعادها قد نذهب للقول إنها نهاية المعارك وليست خطوة على الطريق فحسب، لذلك لا تزال تحمل المرحلة في احشائها الكثير.
سقطت دعاوى العدو وعملائه أنّ المقاومة في لبنان خسرت الحرب واقترب أوان تشييعها. الوقائع تؤكد أنّ الكيان لا يزال أمام تحدّ بل معضلة اسمها مقاومة لبنان ورمزيتها وحيويتها.
رغم مهول ما تعرّضت له المقاومة ومجتمعها بما يشق على جيوش كبرى ودول، لكن المقاومة سارعت بروح مسؤولة وشجاعة لتقيم وتستخلص العبر وتنطلق بزخم وعزم أكبر وشعور بالأمانة، لقد شكلت الأطنان التي انهالت على قلب قائدها معبراً لتفجر ينابيعها وطاقتها وحماستها… كما تثبت المسارات حتى الآن.
نجح شعب المقاومة وجمهورها في لبنان وغزة واليمن وصولاً لعالمنا العربي بل والعالمي أن يحتضن مقاومته ويضمّد جرحها ويساعدها في تجاوز “الخضة” التي واجهتها، وهنا لا يسع المقاومة الا أن تؤكد أنها هي وليدة هذه الشعوب الحرة واستمرار لجهادهم التاريخي وحقهم بالحياة الشريفة وأنها تحمل الأمانة وتستمر بقوة.
لقد استعادت المقاومة في لبنان توازنها السياسي وسرعان ما تقدّمت كقوة فاعلة أحسنت إدارة التعاطي مع التحديات الداخلية والشرقية بينما كانت تعكف على ترميم ذاتها، وأفشلت المحاولات الأميركية لاحتوائها والتخلص من سلاحها بيد الداخل تحت شعار حصرية السلاح، وتراها اعتمدت الصمت كاستراتيجبة عمل مقارنة بالماضي.
لقد ثبت أنّ الانتصار لفلسطين هو الموقف الصحيح من التاريخ، وأنّ كلّ استثمار صادق في طريق فلسطين وكلّ موقف خالص لمساندتها، هو تلاق مع الضمير العالمي وحركة التاريخ البنّاء والحضاري بينما يلفظ الذين يدهنون لقوى الظلم والعنصرية والإبادة والطغيان ـ تلكم التي تحتقر الشعوب وكرامتها.
إنّ المعركة التي انتصرت فيها شعوبنا لغزة كانت أشرف المعارك، وها هي اليوم البشرية السوية من كولومبيا والبرازيل وفنزويلا وشعوب الغرب والشرق كلها ترفع هذه الراية الحقة وتتصدّى لترامب ونتنياهو بقوة وعزم. وهي قد كشفت هزالة ووضاعة بعض القوى والجماعات والأحزاب التي تبرّأت من مظلومية فلسطين وحقها وراحت تنظّر للضعف والاستلحاق بالمجتمع الدولي ـ أميركا ـ فبان خواء دعاويهم أنهم حلفاء “إسرائيل” وأميركا ليتبيّن أنهم أذلّة بعيون الغرب وأميركا ولا وزن لهم.
ربما لأول مرة في تاريخها تكون أميركا أمام هذه العزلة في العالم وأمام الشعوب، وهي ما نسمّيها مفارقة الديمقراطية، فالأكثرية الساحقة في العالم تنفر من النظام الأميركي و”إسرائيل”. فربما للمرة الاولى نرى أميركا الجديدة، أميركا التي لا تمتلك الا المطرقة فقط وليس بيدها إلا لغة القتل والترهيب وممارسة التجويع، وكانّها غادرت الدبلوماسية والعقلانية والقدرة على مخاطبة الناس إلى غير رجعة.
إنّ مقاومة الاستبداد في المنطقة والعالم هي مصدر الشرعيات ومنشؤها، هي الحقيقة المركوزة في إرادة الشعوب الحرة والسيدة، وكلّ الذين يتطلعون إلى أميركا وترامب لنيل شرعية اكتشفوا أنّ أنظمة الغرب قد تعطينا نظاماً لكن بلا دولة أيّ بلا سيادة) وقد يعطونا دولة لكن دون شعب كما يحصل اليوم في فلسطين…
إنّ التقانة مهما بلغت من تقدّم ومهما بلغ استخدامها في مواجهتنا فإنها لا تستطيع بذاتها أن تغيّر المعادلات. والتجربة تقول إنّ المقاومات حالة حيوية وذكية وتستطيع أن تجسر الفجوة العلمية نسبياً وأن تعطل مفاعيل التقانة، فالمقاومات في نهاية المطاف هي نموذج لإبداع جماعي وليس فردياً فقط، ولولا إبداعها لما كانت انتهجت المقاومة بل سلمت للتقليد أيّ للأقوى الظالم والمستبدّ.
يومياً يتأكد انّ المعركة الجارية تندرج ضمن الرؤية الأميركية لاستعادة الهيمنة العالمية ومخطط لها مسبقاً ويُعمل على تنفيذ فصولها لكنهم حتى الآن لم يصلوا الى مبتغاهم لسبب صمود ومتانة ومناعة جبهة المقاومة وعظيم التضحيات.
انّ من يظن أنّ أميركا تتقدّم هو واهم، فالحقيقة أنها تتراجع نفوذاً وتأثيراً ومكانة، وهذا ما سيجعلها أكثر خطراً في قابل الزمن، فلم يُسمع في التاريخ أنّ قوة هيمنة اعترفت بعجزها عن القيادة وتسليم الراية لغيرها، فكيف بامبراطورية مخادعة وقوة قتل كأميركا، كيف بها أن تتعاطى مع عالم يكاد يكون في الشوط الأخير من تحوّل نظامه الدولي. هذا ما سيجعل أميركا أكثر خطورة ومجازفة ويتحرك بلاعقلانية. لم يعد أمامه فسحة للعودة ولا يمتلك رؤية للخروج الا بنصر مطلق، وذلك متعذر.
انّ نتنياهو الذي ما فتئ يردّد أنّ سنة 2026 سنة الحسم قد يُفاجأ، فالذي فشل في اللحظة التاريخية او الساعة الذهبية التي توفرت له للقضاء على قوى المقاومة وجبهتها، هل له أن ينجح بعد كلّ هذا التحوّل والتسونامي العالمي ضده!
المقاومة ليست حركة انفعالية بحيث إذا تضرّرت في سيرها وصعودها ترتدّ وتنكفئ، إنها إرث حضاري وأخلاقي وإنساني وفعل علمي عقلاني يعتبر استمرار المحاولة والمثابرة والإصرار قيمة وأصل في بنائها وحركتها نحو الهدف. المقاومة ليست كحركات الإرهاب القتالة كما روّجت السردية الصهيونية زوراً وضللت الرأي العالمي والغربي بالخصوص لتجعل جداراً سميكاً من سوء الفهم بيننا وبينه! إنّ المقاومة التي مضى عليها الشهيد العظيم السيد حسن نصر الله وغيره من القادة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق وإيران هي سيرورة أخلاقية إنسانية تحررية وهي ثقافة استقلال وهي سند سيادي يبحث بعقلية التكامل مع الآخرين والاستنهاض. هي ليست في عقل أهلها حالة منافسة ولا ندية، فالدولة هي رافعة للمجتمع ومصدر إلهام ومدى وهي ضرورة للدولة في عالمنا العربي حيث دوله مشوّهة ومنقوصة السيادة وفاقدة القدرة على التقرير، بل إنّ المقاومة هي ملك لكلّ الشعوب في مواجهة التوحش الصهيوني والأميركي في العالم وتزداد مبرّراتها كلما ازداد الظلم والتوحش، هي خط دفاع عن المظلوم وعن الاستقرار المهدّد بغض النظر عن دين الجهة وهويتها بل لإحقاق حق ورفض ظلم.
الأكيد أنه لم تكن أميركا وأنظمة الغرب يتوقعون أنّ هذه المعركة (غزة مثلاً) ستطول لعامين وأكثر، أو أنّ حزب الله سيبقى ويستمر بعد حرب كونية لـ 66 يوماً شاركه فيها بعض دول الناتو بالطائرات والتقنيات أو الضربة لإيران التي أتت بنتيجة سلبية على “إسرائيل” أو حتى اليمن الذي أعياهم ولا يزال. لذلك إنّ مسار مخططهم لا يسير على وقع افتراضاتهم وتوقيتاتهم، فالوقت قاتل بالنسبة اليهم. كان الغرب يريد أن يمارس إفكه وينهي القضية الفلسطينية، لكن الذي حدث أربك كل برمجياتهم.
كثيراً ما يوقع وهمُ القوة فاعله بشر أعماله. ويبدو انّ أميركا من القوى التي لا تقرأ التاريخ ولا تتعلم منه، ولو اطلعت لعلمت أنّ القوة مهما بلغت تبقى تعاني من المحدودية.
الدول تتزحزح عن التبعية لأميركا ناهيك عن الشعوب، هي تبحث عن ملاذات جديدة لها، ولذلك تتأرجح بين أميركا وبين حواضن جديدة أكثر موثوقية.
إنّ نظرية الردع لم تعد محدودة بالتعريف الكلاسيكي أو أنها بيد لبنان و”إسرائيل” مثلا أيّ بين دولتين، يبدو أننا انتقلنا بعد طوفان الأقصى و”أولي البأس” إلى الردع المتكامل بين أميركا و”إسرائيل” من جهة وبين مجموع القوى والدول المقاومة، وسترتسم قواعد الردع على هذا الأساس تباعاً.
ما قبل الختام؛ إنّ الأفق ليس منعدماً البتة بل يحمل فرصاً رغم عظيم الألم. ولعلّ في امتداد المعركة التي بدأت في 7 تشرين الزمني والمكاني لتتخطى عامين وتتجاوز حدود فلسطين، لعلّ في ذلك دور ليد التاريخ أن توجهه لتفتح العقول لوعي عالمي جديد فتوقظ ضمائر وتهيّئ قلوباً وعقولاً للتقارب بدل التنافر الذي فرضته ثقافة الاستقطاب والانكفاء عن الأخلاق والقيم باسم “العلمنة” وصراع الحضارات والأديان، لتصير الهوية الجديدة هي الكرامة الإنسانية وليس عصبيات وجاهلية يسمونها أديان ومذاهب، وهذا أمر بالغ الأهمية وضروري جداً كمقدمة لتحوّل سياسي عالمي يبشر باقتراب الانتقال الى وضعية عالمية جديدة. عندما تبدأ الأفكار بالتبدّل هذا يعني أنّ العالم الجديد يهّم أن يولد.
وهناك ضرورة قصوى للتنبّه من مخاطر الفوضى التي يمكن أن يفجرها الأميركي وأنظمة الهيمنة في المنطقة والعالم. فلا يجيب ان يغيب انّ مبتغاهم هي الفوضى لإشغال أعدائهم وخصومهم بعدما باتوا قاصرين عن أن يستجيبوا لأيّ من حاجات وتحديات المجتمعات الإنسانية – فليست القوة وحدها هي التي تصنع المستقبل كما يظن ترامب إنما الشرعية هي الأصل وهو ما تفتقر إليه بل تفتقده أميركا و”إسرائيل”. فالعالم تشكله الأفكار أولاً قبل القوة والاقتصاد.
فترجيح أن يدفع ترامب إلى الفوضى في العالم، وفي منطقتنا يبدو له محله في النقاش، ومن أسبابه أن “إسرائيل” مرهقة وجيشها متعب وغير قادرة للتوسع المفتوح، فهي بالنهاية دولة محدودة ولا تستطيع أن تسيطر على منطقة عربية وإسلامية مترامية، لم يبق بحوزتها الى التقنية وخوض الحروب الجوية والتسلل الى داخل الدول والتغيير والأهم تحفيز القوى على الفتن الداخلية والصدام والتفكيك.
أخيراً:
المطلوب أولاً ضرورة التلاحم أو تجميد الخصام بالحدّ الأدنى لأنّ المعركة لم تنته بعد… يجاهر نتنياهو بأنّ عام 2026 سيكون عام الحسم. فالمنطقة بأسرها لا تزال في قلب التهديد والزلزال. وتزداد ضرورة تآزر القوى الحية الإسلامية منها والعروبية وغيرها على امتداد العالم للتلاقي في هذه اللحظة إذا كانت الحكومات غير قادرة أو عاجزة أو متردّدة، والتوكيد أن الشعوب إذا وقفت والعواصم إذا اعتصمت لن يستطيع ترامب ولا أيّ قوة أن تفرض رأيها وموقفها مهما بالغت في استخدام القوة، فآفة القوة العسكرية هو الشعوب الحرة المريدة التي لا تترك الميدان والساحات.